مجتمع

مقامة رمضانية لطه حسين

موكب لرؤية الهلال، ومدارسة كتب التفسير والأحاديث ومديح النبي صلى الله عليه وسلم..قراءة تراثية في احتفاء الأزهر بشهر رمضان.

future صورة تعبيرية (مقامة رمضانية لطه حسين)

مقال للكاتب والأديب والمؤرخ المصري محمد سيد كيلاني (1912- 1998) نُشِر بمجلة الدوحة (شهرية ثقافية جامعة تعد ملتقىً للإبداع العربي والثقافية الإنسانية) في 1 يونيو 1986

عندما ينصرم شهر شعبان، يبدأ الاستعداد لرؤية هلال رمضان المبارك، فيصعد أحد قضاة الشرع إلى أعلى مئذنة في المدينة ومعه مساعدان، وينتظر حتى تغرب الشمس تمامًا.

فإن ظهر له الهلال، أوقد مصباحًا معلقًا في قمة المئذنة، وبذلك يُعرف أن شهر الصوم قد بدأ. ثم ينزل القاضي ويبلغ ذلك إلى أولي الأمر، ويتبادل المسلمون والمجاذيب التهاني وأطيب التمنيات.

وفي ذلك الوقت، يكون موكب الرؤية في الانتظار تتقدمه فرقة من فرسان الشرطة ويشترك فيه أصحاب الحِرف ومشايخ الطرق الصوفية ذاكرين الله، حاملين أعلامهم، ويطوفون بشوارع المدينة ابتهاجًا بهذه المناسبة السعيدة، ويخرج الأطفال إلى الشوارع، وبيد كل منهم مصباح صغير، كما تنتشر محلات بيع الكنافة والقطائف في كل مكان، وتُوقد المصابيح على واجهات المنازل ومآذن المساجد.

وقد وصف الرحالة المغربي أبو بكر العياشي، الذي زار مصر في القرن العاشر الهجري، ما كان يجري في الجامع الأزهر من الاحتفالات العظيمة. قال: وبتنا تلك الليلة في الجامع الأزهر لأنها ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي الحقيقة كل الليالي في ذلك المسجد كليلة القدر، لأنه معمور بالذكر والتلاوة والتعليم آناء الليل وأطراف النهار صيفًا وشتاءََ

وكان شيوخ الأزهر يختارون بعض كتب التفسير والحديث، فيدرسونها بحيث يفرغون منها مع نهاية الشهر، وتقام احتفالات بهذه المناسبة. قال العياشي: فلما كان يوم التاسع والعشرين من الشهر، ختم المشايخ دروسهم، فختم الشيخ عبد السلام اللقاني، ويبدأ الاحتفال بعد صلاة الصبح بقراءة آيات من القرآن، ومنهم من يقرأها بالقراءات السبع.

ثم ينهض أنجب التلاميذ فيُلقي قصيدة من نظمه، فيها مدح للنبي ﷺ، والترضي عن صاحب الكتاب المقروء، والدعاء للشيخ ويدعو للحاضرين، بصوت خاشع، فيؤمن الناس على دعائه، ويحضر هذا الاحتفال عدد كبير من أفاضل الناس والمجاذيب.

وأغلب الظن أن هذه العادات نشأت في عصر الدولة الفاطمية واستمرت مع مرور الزمن، وقد ظلّ حي الأزهر مقصدًا للناس طوال شهر الصوم، كان سكانه ينامون النهار ويسهرون الليل، فإذا أقبل العصر بدأوا يتحركون لإعداد الطعام، وكثر البيع والشراء، وشرعت المقاهي تستعد لاستقبال الوافدين عليها. 

وكان بعض الأدباء يجتمعون ويقضون شطرًا من الليل في مسامرات أدبية، وكان الشاب طه حسين أحد هؤلاء الأدباء، وقد عني بتصوير سلوك الصائمين حين يقترب موعد الإفطار. قال: فإذا دنا الغروب، خفقت القلوب، وأصغت الآذان لاستماع الأذان، وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقًا تتقلب، وأحداثًا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه، وتسحر لُبَّه بما مُلئت به من فاكهة، واترعت من شراب.

الآن، يشقُّ المسمعَ دويُّ المدفع، فانظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى الجُياع وقد أطافوا بالقصاع، تجد أفواهًا تلتقم، وحلوقًا تلتهم، وألوانًا تبيد، وبطونًا تستزيد، ولا تزال الصحائف تُرفع وتُوضع، والأيدي تذهب وتعود، وتدعو الأجواف: قدني، قدني، وتصيح البطون: قطني، قطني…

على رسلكم أيها الناس، إن الله لم يأخذكم بالظمأ والجوع لتربحوا بالليل ما خسرتم بالنهار، وإنما أراد أن يذيقكم ألم الجوع وحر الصدى، لتحسوا بما يحسُّ به إخوانكم الفقراء، فترق لهم قلوبكم…

وكانت الإذاعة المسموعة قد بدأت تظهر في مصر، وتبث أجزاءً من القرآن الكريم، فكتب الشيخ محمد حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية سنة 1925، مستنكرًا بث القرآن من محطة الإذاعة. قال: وأي استهانة بكلام الله القديم واستخفاف بشأنه أشنع من نقل ألفاظه الشريفة وآياته المقدسة بآلات لا تُدار إلا للطرب بالأناشيد الغرامية، والمداعبات الفكاهية، واللهو بالهجر من القول؟. 

إلا أن رأي المفتي لم يُؤخذ به، وبعد الحرب العالمية الثانية، انتشرت محطات الإذاعة المسموعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وأخذت تهتم بالبرامج الدينية، والمدائح النبوية، وبث القرآن الكريم بأصوات كبار المقرئين، فكانت عاملًا عظيمًا في تعميق الوعي الديني بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ بل بين المسلمين في أوروبا وأمريكا.

وخير ما نختم به هذا المقال، حديثٌ رواه ابن عباس رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ، أنه قال لامرأة من الأنصار: ما منعك أن تحجي معنا؟ فإذا كان رمضان، فاعتمري، فإن عمرةً في رمضان تعدل حجةً. قال ابن حجر العسقلاني: الحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض، للإجماع على أن الاعتمار لا يُجزي عن حج الفرض.

# دين # شهر رمضان # طه حسين

حتى لا يحمل أبناءنا أسفارًا
يوميات المازني في رمضان
مجالس الأدب في إحدى ليالي رمضان

مجتمع